يتواصل الجدل منذ أسابيع حول إحداث لجان تحقيق مستقلة حول الفساد و التجاوزات وذلك على خلفية تجاوز إختصاصاتها مجال القضاء. و قد تم الإعلان عن هذه اللحان من الرئيس المخلوع في آخر خطاب له قبل أن يعلن الوزير الأول بعد فراره عن تسمية رؤسائها مع قائمة أول حكومة إنتقالية. و لئن كان هذا الجدل من جوهر ثقافة الحوار و العادية في أي وضع ديموقراطي فإن توتر الردود و درجة الإصرار على فرضها إلى درجة عدم الإذعان لأحكام القضاء خاصة بعد صدور حكم بإيقاف عمل إحدى هذه اللجان تحيلنا على الخلفية الحقيقية لهذا النزاع الذي يطرح في الحقيقة مسألة وضع السلطة القضائية خلال المرحلة الإنتقالية و محاولة الإلتفاف على المحاسبة الفعلية لكل المتورطين في الفساد و التجاوزات.
فرغم مرور حوالي شهرين على سقوط حكم الرئيس زين العابدين بن علي لا يزال وضع السلطة القضائية مبهما و لا يعكس تصورا واضحا لموقعها في النظام الجديد و دورها في خدمة الثورة و التي كان مطلب العدالة أهم أهدافها.
و قد عاش القضاء على مدى الحكم البائد أوضاعا قاسية حولته إلى جهاز لخدمة سلطة الإستبداد و أداة لقمع المعارضين وخدمة المصالح الخاصة لبطانة الفساد و النهب المتنفذين في السلطة إلى درجة الشلل تماما عن التصدي للتجاوزات و المضالم الصارخة التي كانت تلهج بها الألسن في كل مكان (1). و هو و هي أوضاع تسلطت على مختلف مؤسسات الدولة دون إستثناء بدءا بالحكومة و البرلمان و الإدارة و أجهزة الأمن دون إستثناء.
و لا أعتقد أن التونسيين كانوا في غفلة عن الأوضاع التي كان يعمل داخلها القضاة و ما كانوا يتعرضون له من ضغوط و ابتزاز و تعسف و ترهيب سواءا كأفراد أو من خلال هياكلهم المهنية و ما أضهروه على خلاف غيرهم من مقاومة وتصدي و ما دفعه بعضهم مقابل ذلك من تضحيات. و قد حكمت هذه الأوضاع بالتهميش و الإقصاء على أغلب الكفاءات القضائية وشجعت الإنتهازية و الخضوع و المتاجرة بالنفوذ و الفساد داخل المؤسسة القضائية و انعكست على القضاء بفقدان ثقة المجتمع في عدالته و حياده و نزاهته.
لذلك كان تحرر الشعب التونسي من سطوة العصابة التي كانت تقمعه و تنهبه باسم السلطة تحررا للقضاة في إتجاه إستعادة دورهم الطبيعي و بناء سلطتهم الدستورية و استرجاع هيبتهم داخل مجتمعهم. إلا أن الحكومات المؤقتة المتعاقبة لحد الآن على السلطة التنفيذية لم تغير من نضرتها للقضاء و لم تسمح برفع وصايتها عنه و لم تتعامل معه كسلطة دستورية ثالثة مسؤولة معها على ضمان إستمرارية الدولة و مدعوة مثلها لإدارة المرحلة الإنتقالية.
و قد برز منذ الأيام الأولى لسقوط العهد البائد خللان أساسيان في التعامل مع وضع السلطة القضائية في المرحلة الإنتقالية:
- الأول : عدم إتساع عملية تطهير السلطة من رموز عصابة النهب و الإستبداد داخل الحكومة التي بقيت بيد المنتسبين للعهد البائد لتشمل القضاء بنفس بنفس السرعة و الشمول(2).
- الثاني : محافضة الحكومات التي تسلمت الحكم بعد رحيل بن على على نضرة الوصاية التي تعودت التعامل بها مع القضاء و لم تعترف به كسلطة قائمة بذاتها صاحبة دور مستقل في إدارة المرحلة الإنتقالية في مجال إختصاصها(3).
و انجر عن هذه الوضعية إستمرار المنهج الشمولي السابق في تصور السلطة خلال المرحلة الإنتقالية و الذي إزداد تركيزا بحصول الرئيس المؤقت على تفويض بصلاحيات السلطة التشريعية ثم قيامه بإيقاف العمل بالدستور على خلفية إعلانه عن إنتخابات للمجلس التأسيسي.
و قد كان إنعكاس هذا الوضع على القضاة من القسوة إلى حد شجع على التطاول عليهم بطرد بعض القضاة من قاعة الجلسة و ملاحقة بعضهم داخل مقر عملهم و حتى في محل سكناهم فضلا عن الحملات التشهيرية التي إستهدفتهم في مختلف وسائل الإعلام بما ترك إنطباعا لدى الرأي العام بأن الفساد و التجاوزات هي القاعدة بين أكثر من 1800 قاضي تونسي و عكس ذلك إستثناءات نادرة و شبه غريبة في محيطها. و الحال أن القضاء شأنه شأن كل مؤسسات الدولة ويتحمل قدره من المسؤولية التي تتحملها جميعا و ليس من الإنصاف أن يتحول إلى شماعة تعلق عليها كل أعباء العهد البائد.
وهكذا سلطت على القضاة حالة إرباك لم تسمح لهم بتدارك وضعهم الجديد في مواجهة المرحلة الإنتقالية تزامنت مع منهج سياسي في التعامل معهم باتجاه تحييدهم عن مسؤولياتهم الدستورية و القانونية و حصرهم في الإطار الضيق لتصريف أعمالهم القضائية تحت نضر السلطة التنفيذية.
ذلك أن تجاوزات الحكومات المؤقته على القضاء لم تقتصر على تجميد أوضاعه على الحالة التي كان عليها قبل الثورة سواءا من حيث توزيع المسؤوليات بين إطاراته حيث حافضت تقريبا نفس رموز العهد السابق على مواقعها في إدارة القضاء و تسيير المحاكم بل أهمل أيضا تفعيل المجلس الأعلى للقضاء و إعادة هيكلته على النحو الذي يستجيب لمتطلبات المرحلة الإنتقالية (4) و احتفظ وزير العدل بكل صلاحياته المكبلة لعمل النيابة العمومية و انتهج نفس الممارسات القديمة المقيدة لها في حدود تعليماته. و باستثناء بعض المبادرات الخاصة و المحصورة في قضية حل التجمع التي أثارها وزير الداخلية (وهو قاضي قبل أن يصبح وزير) و قضية إيقاف عمل لجنة البحث في الفساد والرشوة التي بادر بها بعض المحامين فإن بقية التتبعات القليلة عن جرائم العهد البائد لم تخرج عن تعليمات السلطة التنفيذية ممثلة في وزير العدل إذ بقيت أغلب الشكايات المقدمة من أطراف حقوقية ضد تجاوزات رموز العهد البائد مجمدة بوكالة الجمهورية.
و لكن الأخطر مما لم يسبق للقضاء التونسي أن شهد له مثيلا تمثل في ضهور هيئات قضاء موازية دخلت العمل بصفة فعلية قبل أن يصدر لها أي أساس قانوني يضبظ تركيبتها و يحدد إختصاصاتها تحت لافتة التقصي في التجاوزات التي ذهب ضحيتها أكثر من مائتي شهيد خلال التورة و للبحث في قضايا الرشوة و الفساد. و تم الترويج بشكل واسع و مركز لهذه اللجان على مختلف وسائل الإعلام و تقديمها بشكل دعائي واضح كملجأ لكل المقهورين و المضلومين بما يؤشر على وجيد نية واضحة في تحويل المشتكين و المتضلمين عن القضاء العادي و القنوات العادية للعدالة و على خلاف ما تقتضية الإجراءات الضامنة لحقوقهم. و أمكن لهذه الحملة ان تحيل على هاتين اللجنتين أكثر من سبعة آلاف ملف في أقل من شهرين.
و لعل الأمر لا يحتاج لحدس أو ذكاء خارق لمعرفة السر من وراء إصرار الأوساط التي تقف وراء إحداث هذه اللجان على دفعها لمباشرة أعمالها خارج الشرعية (5) و الإصرار على التمسك بها رغم إدراك الجميع لعدم قانونية مقاصدها. فالفساد و التجاوزات سمة مرحلة قاربت الربع قرن و شكلت الأدوات الرئيسية لتنفيذ الأغراض و تحقيق المصالح لكل اللذين يخافون اليوم من إسترجاع القانون لسلطته و القضاء لاستقلاليته و هذه اللجان هي صمام أمانهم الوحيد في رهانهم على الزمن لتبييض كنوزهم في إنتضار الإلتفاف على الثورة و تحويلها عن أهدافها.
و لكن صدور المراسيم المحدثة لهذه اللجان تعطل بسبب صعوبة التوفيق بين ما يراد لهذه اللجان أن تضطلع به و بين ما تقتضيه القوانين التي تحكم هذه الوضعية. وقد كنت من بين من تناول هذا الموضوع مطولا مع الوزير الأول محمد الغنوشي عند ما إستدعيت للقائه و لم أدخر جهدا لإقناعه على مدى أكثر من ساعة باستحالة إقامة مثل هذه اللجان قانونا و بان لا بديل عن القضاء إطارا لمثل هذه الوضعيات حتى أنه سلمني مشاريع المراسيم التي كانت بصدد الإعداد لديه قصد مراجعته بشأنها. و لكنني أيضا متأكد شخصيا أن الوزير الأول محمد الغنوشي لم يحل مشاريع تلك المراسيم للإمضاء من طرف الرئيس المؤقت في التاريخ المسجل عليها و لا بالشكل الذي صدرت به و هو لا يزال موجود و يمكن مخاطبته في ذلك.
و الواضح أن الوزير الأول الجديد بدأ عهده بتفعيل خبرته في سياسة العهد البائد معتقدا أنه بإصدارها سيضع الجميع أمام الأمر المقضي بعد أن أصبحت قوانين يعتد بها كما فعل الأستاذ عبد الفتاح عمر و هو يلوح بها في ندوته الصحفية في وجه الصحفيين متعاليا عن القضاء و رافضا الإذعان لأحكامه.
و تعود بنا هذه الوضعية إلى ذكريات العهد البائد لأن بن غلي الذي لم يكن أبدا يخضع للقانون كان في الحقيقة يحكم بالقانون لأن القانون لديه هو خلاصة إرادته و لا يمكن لأحد أن يناقش مشيئته. لذلك عندما نطالع المراسيم الصادرة بالرائد الرسمي عدد11 في 1 مارس 2011 نلاحظ أنه تم تزوير تاريخ إمضائها من طرف الرئيس المؤقت حتى يكون سابقا لتاريخ تفتيش لجنة الفساد لقصر إقامة الرئيس السابق بسيدي الضريف و فتح خزائن الأموال داخله يوم 19 فيفري 2011. بينما نلاحظ عند مطالعتنا لما ورد بالمرسوم المتعلق بلجنة الفساد إضافة فصل للمشروع الأصلي ورد تحت عدد 5 يعطي رئيس اللجنة و أعضائها الحصانة ضد التتبعات في ما يتعلق بممارسة مهامهم و هو ما يطرح التسائل عن المصداقية التي بقيت لهم إذا كانوا في حاجة لحصانة من تبعة أعمالهم. بينما يعطيهم فصل ىخر كل صلوحيات البحث الخاصة حصريا بقضاة التحقيق أو الضابطة العدلية في حالات إستثنائية بحيث جاء المرسوم كأنه يعالج أوضاع اللجنة عن التجاوزات التي إرتكبتها قبل تقنينها.
إن الموضوع في الحقيقة يتجاوز هذه اللجان التي لم تتعدى المحاولة الفاشلة للإلتفاف على القضاء و محاولة سلبه جوهر إختصاصاته في هذه المرحلة و لكن رب ضارة نافعة حتى يدرك الرأي العام ما معنى المطابة باستقلال القضاء و قيام السلطة القضائية بكل صلاحياتها الدستورية لأننا بعد أن خبرنا في المرحلة الماضية ما قادنا إليه غياب القضاء عن موقعه و سلطته علينا اليوم أن نعي جيدا ماذا يعني تغييبه و تواصل سيطرة السلطة التنفيذية عليه.
المختار اليحياوي – تونس في 10 فيفري 2011
No comments:
Post a Comment